فصل: تفسير الآية رقم (46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏لهم فيها دارُ الخُلدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 28‏]‏، أي ويقولون في جهنم، فعدل عن صيغة الاستقبال إلى صيغة المضيّ للدلالة على تحقيق وقوع هذا القول وهو في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فئآتهم عذاباً ضعفاً من النار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏، فالقائلون ‏{‏رَبَّنَا أَرِنَا اللذين أضلانا‏}‏‏:‏ هم عامّةُ المشركين، كما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏اللذَيْننِ أَضَلاَّنَا‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏أَرِنَا‏}‏ عيّن لنا، وهو كناية عن إرادة انتقامهم منهم ولذلك جُزم ‏{‏نَجْعَلْهُمَا‏}‏ في جواب الطلب على تقدير‏:‏ إن ترناهما نجعلهما تحت أقدامنا‏.‏

والجعل تحت الأقدام‏:‏ الوطء بالأقدام والرفسُ، أي نجعل آحادهم تحت أقدام آحاد جماعتنا، فإن الدهماء أكثر من القادة فلا يعوزهم الانتقام منهم‏.‏ وكان الوطء بالأرجل من كيفيات الانتقام والامتهان، قال ابن وَعْلَة الجَرمي‏:‏

ووَطِئْنَا وَطْأً على حَنَق *** وَطْأَ المُقَيَّد نابتَ الهَرْم

وإنما طلبوا أن يُرَوْهُما لأن المضلين كانوا في دركات من النار أسفل من دركات أتباعهم فلذلك لم يعرفوا أين هم‏.‏

والتعليل ‏{‏لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ‏}‏ توطئة لاستجابة الله تعالى لهم أن يريَهُمُوهُما لأنهم علموا من غضب الله عليهم أنه أشد غضباً على الفريقين المضلين فتوسلوا بعزمهم على الانتقام منهم إلى تيسير تمكينهم من الانتقام منهم‏.‏ والأسفلون‏:‏ الذين هم أشد حَقارة من حقارة هؤلاء الذين كفروا، أي ليكونوا أحقر منا جزاء لهم، فالسفالة مستعارة للإِهانة والحقارة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أَرِنَا‏}‏ بكسر الراء‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر والسوسي عن أبي عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوبُ بسكون الراء للتخفيف من ثقل الكسرة، كما قالوا‏:‏ فَخْذ في فَخِذ‏.‏ وعن الخليل إذا قلت‏:‏ أرِني ثوبك بكسر الراء، فالمعنى‏:‏ بصِّرْنيه، وإذا قلته بسكون الراء فهو استعطاء، معناه‏:‏ أعطنيه‏.‏ وعلى هذا يَكون معنى قراءة ابن كثير وابن عامر ومَن وافقهما‏:‏ مَكِّنا من الذين أضلاَّنا كي نجعلهما تحت أقدامنا، أي ائذَن لنا بإهانتهما وخزيهما‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏اللَّذينِّ‏}‏ بتشديد النون من اسم الموصول وهي لغة، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللذانِّ يأتيانها منكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏16‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏30‏)‏ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ‏(‏31‏)‏ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

بعد استيفاء الكلام على ما أصاب الأممَ الماضية المشركين المكذبين من عذاب الدنيا وما أُعدّ لهم من عذاب الآخرة مما فيه عبرة للمشركين الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم بطريق التعريض، ثم أنذروا بالتصريح بما سيحلّ بهم في الآخرة، ووصف بعض أهواله، تشَوَّفَ السامعُ إلى معرفة حظ المؤمنين ووصففِ حالهم فجاء قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا الله‏}‏ الخ، بياناً للمترقب وبشرى للمتطلب، فالجملة استئناف بياني ناشئ عما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ نَحْشُرُ أعدَاءَ الله إلَى النَّارِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الأَسْفَلِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وافتتاح الجملة بحرف التوكيد منظور فيه إلى إنكار المشركين ذلك، ففي توكيد الخبر زيادة قمع لهم‏.‏ ومعنى ‏{‏قالوا ربُّنا الله‏}‏ أنهم صدعوا بذلك ولم يخشَوا أحداً بإعلانهم التوحيد، فقولُهم تصريح بما في اعتقادهم لأن المراد بهم قالوا ذلك عن اعتقاد، فإن الأصل في الكلام الصدق وهو مطابقة الخبر الواقع وما في الوجود الخارجي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا الله‏}‏ يفيد الحصر بتعريف المسند إليه والمسند، أي لا ربّ لنا إلا الله، وذلك جامع لأصل الاعتقادِ الحق لأن الإِقرار بالتوحيد يزيل المانع من تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به إذ لم يصُدَّ المشركين عن الإِيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه أمرهم بنبذ عبادة غير الله، ولأن التكذيب بالبعث تلقوه من دعاة الشرك‏.‏

والاستقامة حقيقتها‏:‏ عدم الاعوجاج والميللِ، والسين والتاء فيها للمبالغة في التقوّم، فحقيقة استقام‏:‏ استقَل غير مائل ولا منحن‏.‏ وتطلق الاستقامة بوجه الاستعارة على ما يجمع معنى حسن العمل والسيرة على الحق والصدق قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاسْتَقِيموا إليه واستَغْفروه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏، ويقال‏:‏ استقامت البلاد للملك، أي أطاعت، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ف ‏{‏استقاموا‏}‏ هنا يشمل معنى الوفاء بما كلفوا به وأول ما يشمل من ذلك أن يثبتوا على أصل التوحيد، أي لا يغيروا ولا يرجعوا عنه‏.‏

ومن معنى هذه الآية ما روي في «صحيح مسلم» عن سفيان الثقفي قال‏:‏ قلتُ‏:‏ يا رسول الله قُل لي في الإِسلام قولاً لا أسألُ عنه أحداً غيرَك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ قُل آمنت بالله ثم استقِمْ ‏"‏‏.‏ وعن أبي بكر ‏{‏ثُمَّ استقاموا‏}‏‏:‏ لم يشركوا بالله شيئاً‏.‏ وعن عمر‏:‏ استقاموا على الطريقة لطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعَالب‏.‏ وقال عثمان‏:‏ ثم أخلَصوا العمل لله‏.‏ وعن علي‏:‏ ثم أدّوا الفرائض‏.‏ فقد تولى تفسير هذه الآية الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم‏.‏ وكل هذه الأقوال ترجع إلى معنى الاستقامة في الإِيمان وآثاره، وعناية هؤلاء الأربعة أقطاب الإسلام ببيان الاستقامة مُشير إلى أهميتها في الدين‏.‏

وتعريب المسند إليه بالموصولية دون أن يقال‏:‏ إن المؤمنين ونحوه لما في الصلة من الإِيماء إلى أنها سبب ثبوت المسند للمسند إليه فيفيد أن تنزل الملائكة عليهم بتلك الكَرامة مسبَّب على قولهم‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا الله‏}‏ واستقامتهم فإن الاعتقاد الحق والإِقبال على العمل الصالح هما سبب الفوز‏.‏

و ‏{‏ثُم‏}‏ للتراخي الرتبي لأن الاستقامة زائدة في المرتبة على الإِقرار بالتوحيد لأنها تشمله وتشمل الثبات عليه والعملَ بما يستدعيه، ولأن الاستقامة دليل على أن قولهم‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا الله‏}‏ كان قولاً منبعثاً عن اعتقاد الضمير والمعرفة الحقيقية‏.‏

وجَمَع قولُه‏:‏ ‏{‏قَالُوا رَبُّنا الله ثُمَّ استقاموا‏}‏ أَصْلَي الكمال الإسلامي، فقوله‏:‏ ‏{‏قالُوا رَبُّنَا الله‏}‏ مشير إلى الكمال النفساني وهو معرفة الحق للاهتداء به، ومعرفة الخير لأجل العمل به، فالكمال علم يقيني وعمل صالح، فمعرفة الله بالإِلهية هي أساس العلم اليقيني‏.‏ وأشار قوله‏:‏ ‏{‏استقاموا‏}‏ إلى أساس الأعمال الصالحة وهو الاستقامة على الحق، أي أن يكون وسطاً غير مائل إلى طرفَي الإِفراط والتفريط قال تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ على أن كمال الاعتقاد راجع إلى الاستقامة، فالاعتقاد الحق أن لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل، ولا يتوغل في جانب الإِثبات إلى حيث ينتهي إلى التّشبيه والتمثيل بل يمشي على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل، ويستمر كذلك فاصلاً بين الجبريّ والقدَريّ، وبين الرجاء والقنوط، وفي الأعمال بين الغلوّ والتفريط‏.‏

وتنزُّلُ الملائكة على المؤمنين يحتمل أن يكون في وقت الحشر كما دل عليه قولهم‏:‏ ‏{‏الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ‏}‏، وكما يقتضيه كلامهم لهم لأن ظاهر الخطاب أنه حقيقة، فذلك مقابل قوله‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ نَحْشُر أعْدَاء الله إلَى النَّارِ فَهُم يُوزَعُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏، فأولئك تلاقيهم الملائكة بالوزع، والمؤمنون تتنزل عليهم الملائكة بالأمن‏.‏ وذِكر التنزل هنا للتنويه بشأن المؤمنين أن الملائكة ينزلون من علوياتهم لأجلهم فأما أعداء الله فهم يجدون الملائكة حُضَّراً في المحشر يَزَعُونهم وليسوا يتنزلون لأجلهم فثبت للمؤمنين بهذا كرامة ككرامة الأنبياء والمرسلين إذ يُنزّل الله عليهم الملائكة‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يتنزل على كل مؤمن مَلَكان هما الحافظان اللذان كانا يكتبان أعماله في الدنيا‏.‏ ولتضمن ‏{‏تَتَنَزَّلُ‏}‏ معنى القول وردت بعده ‏(‏أنْ‏)‏ التفسيرية والتقدير‏:‏ يقولون لا تخافوا ولا تحزنوا‏.‏ ويجوز أن يكون تنزل الملائكة عليهم في الدنيا، وهو تنزل خفيّ يعرف بحصول آثاره في نفوس المؤمنين ويكون الخطاب ب ‏{‏لا تخافوا ولا تحزنوا‏}‏ بمعنى إلقائهم في رُوعهم عكس وسوسة الشياطين القرناء بالتزيين، أي يُلقون في أنفس المؤمنين ما يصرفهم عن الخوف والحزن ويذكرهم بالجنة فتحِل فيهم السكينة فتنشرح صدورهم بالثقة بحلولها، ويلقُون في نفوسهم نَبذ ولاية من ليسوا من حزب الله، فذلك مقابل قوله‏:‏ ‏{‏وَقَيَّضْنا لَهُم قُرَنَآءَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 25‏]‏ الآية فإنه تقييض في الدنيا‏.‏ وهذا يقتضي أن المؤمنين الكاملين لا يخافون غير الله، ولا يحزنون على ما يصيبهم، ويوقنون أن كل شيء بقدر، وهم فرحون بما يترقبون من فضل الله‏.‏

وعلى هذا المعنى فقوله‏:‏ ‏{‏الَّتِي كُنتُم‏}‏ تُعتبرُ ‏(‏كان‏)‏ فيه مزيدة للتأكيد، ويكون المضارع في ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ على أصل استعماله للحال والاستقبال، ويكون قولهم‏:‏ ‏{‏نَحنُ أولِياؤكُم فِي الحياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَة‏}‏ تأييداً لهم في الدنيا ووعداً بنفعهم في الآخرة‏.‏

و ‏{‏لا‏}‏ ناهية، والمقصود من النهي عن الخوف‏:‏ النهي عن سببه، وهو توقع الضر، أي لا تحسبوا أن الله معاقبكم، فالنهي كناية عن التأمين من جانب الله تعالى لأنهم إذا تحققوا الأمن زال خوفهم، وهذا تطمين من الملائكة لأَنْفُس المؤمنين‏.‏

والخوف‏:‏ غمّ في النفس ينشأ عن ظن حصول مكروه شديد‏.‏ والحزَن‏:‏ غمّ في النفس ينشأ عن وقوع مكروه بفوَاتتِ نفععٍ أو حصول ضرّ‏.‏

وألحقوا بتأمينهم بشارتهم، لأن وقع النعيم في النفس موقعَ المسرة إذَا لم يخالطه توقع المكروه‏.‏

ووصفُ الجنة ب ‏{‏الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ‏}‏ تذكير لهم بأعمالهم التي وعدوا عليها بالجنة، وتعجيل لهم بمسرة الفوز برضى الله، وتحقيق وعده، أي التي كنتم توعدونها في الدنيا‏.‏ وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أنهم متأصلون في الوعد بالجنة وذلك من سابق إيمانهم وأعمالهم‏.‏

وفي التعبير بالمضارع في ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ إفادة أنهم قد تكرر وعدهم بها، وذلك بتكرر الأعمال الموعود لأجلها وبتكرر الوعد في مواقع التذكير والتبشير‏.‏

وقول الملائكة‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ‏}‏ تعريف بأنفسهم للمؤمنين تأنيساً لهم‏.‏

فإن العلم بأن المتلقِّيَ صاحب قديم يزيد نفس القادم انشراحاً وأنساً ويزيل عنه دهشة القدوم، يُخفف عنه من حشمة الضيافة، ويزيل عنه وحشة الاغتراب، أي نحن الذين كنا في صحبتكم في الدنيا، إذ كانوا يكتبون حسناتهم ويشهدون عند الله بصلاتهم كما في حديث‏:‏ ‏"‏ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم‏:‏ كيف تركتم عبادي‏؟‏ فيقولون‏:‏ أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلون ‏"‏‏.‏ وقد حفظوا العهد فكانوا أولياء المؤمنين في الآخرة، وقد جيء بهذا القول معترضاً بين صفات الجنة ليتحقق المؤمنون أن بشارتهم بالجنة بشارة محب يفرح لحبيبه بالخير ويسعى ليزيده‏.‏

واعلم أن قوله‏:‏ ‏{‏في الحَياةِ الدُّنيا‏}‏ إشارة إلى مقابلة قوله في المشركين ‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُم قُرَنَاءَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 25‏]‏ فكما قيّض للكافر قرناء في الدنيا قيّض للمؤمنين ملائكة يكونون قرناءَهم في الدنيا، وكما أنطق أتباعهم باللائمة عليهم أنطق الملائكة بالثناء على المؤمنين‏.‏ وهذه الآية تقتضي أن هذا الصنف من الملائكة خاص برفقة المؤمنين وولائهم ولا حظ للكافرين فيهم، فإن كان الحفظة من خصائص المؤمنين كما نقله ابن ناجي في «شرح الرسالة» فمعنى ولايتهم للمؤمنين ظاهر، وإن كان الحفظة موكَّلين على المؤمنين والكافرين كما مشى عليه الجمهور وهو ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9 12‏]‏ فهذا صنف من الملائكة موكّل بحفظ المؤمنين في الدنيا، وهم غير الحفظة، وقد يكون هذا الصنف من الملائكة هو المسمى بالمعقبات في قوله تعالى‏:‏

‏{‏له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر اللَّه‏}‏ حسب ما تقدم في سورة الرعد ‏(‏11‏)‏‏.‏

وقد دلت عدة آثار متفاوتة في القبول على أن الملائكة الذين لهم علاقة بالناس عموماً أو بالمؤمنين خاصة أصناف كثيرة‏.‏ وعن عثمان «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم كم من ملَك على الإِنسان، فذكر له عشرين مَلكاً»‏.‏ ولعل وصف الملائكة المتنزلين بأنهم أولياء يقتضي أن عملهم مع المؤمن عمل صلاح وتأييد مثل إلهام الطاعات ومحاربة الشياطين ونحو ذلك، وبذلك تتم مقابلة تنزلهم على المؤمنين بذكر تقييض القرناء للكافرين، وهذا أحسن‏.‏

وجملة ‏{‏ولَكُم فِيهَا ما تَشْتَهِي أنفُسُكُم‏}‏ عطف على ‏{‏التي كُنتُم تُوعَدُون‏}‏ وما بينهما جملة معترضة كما بينته آنفاً‏.‏

ومعنى ‏{‏مَا تَدَّعُونَ‏}‏‏:‏ ما تتمنون‏.‏ يقال‏:‏ ادَّعَى، أي تمنى، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم ما يدَّعون‏}‏ في سورة يس ‏(‏57‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لكم فيها ما تشتهونه مما يقع تحت الحسّ وما تتمنونه في نفوسكم من كل ما يخطر بالبال مما يجول في الخيال، فما يدّعون غير ما تشتهيه أنفسهم‏.‏

ولهذه المغايرة أعيد ‏{‏لكم‏}‏ ليؤذن باستقلال هذا الوعد عن سابقه، فلا يتوهم أن العطف عطف تفسير أو عطف عام على خاص‏.‏

والنزُل بضم النون وضم الزاي‏:‏ ما يُهَيَّأ للضيف من القِرى، وهو مشتق من النزول لأنه كرامة النزيل، وهو هنا مستعار لما يُعطَوْنَه من الرغائب سواء كانت رزقاً أم غيره‏.‏ ووجه الشبه سرعة إحضاره كأنه مُهَيَّأٌ من قبللِ أن يشتهوه أو يتمنوه‏.‏

و ‏{‏من غَفُورٍ رحيمٍ‏}‏ صفة ‏{‏نُزُلاً‏}‏، و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية‏.‏

وانتصب ‏{‏نُزُلاً‏}‏ على الحال من ‏{‏مَا تَشتهي أنفُسُكم‏}‏‏.‏ و‏{‏مَا تَدَّعُونَ‏}‏ حال كونه كالنزل المهيّأ للضيف، أي تعطونه كما يعطى النزل للضيف‏.‏

وأوثرت صفتا ‏(‏الغفور الرحيم‏)‏ هنا للإِشارة إلى أن الله غفر لهم أو لأكثرهم اللممَ وما تابوا منه، وأنه رحيم بهم لأنهم كانوا يحبونه ويخافونه ويناصرون دينه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

ليس هذا من حكاية خطاب الملائكة للمؤمنين في الآخرة وإنما هو موجه من الله فالأظهر أنه تكملة للثناء على ‏{‏الذين قالوا‏:‏ ربنا الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏، واستقاموا، وتوجيه لاستحقاقهم تلك المعاملة الشريفة، وقمع للمشركين إذ تقرع أسماعَهم، أي كيف لا يكونون بتلك المثابة وقد قالوا أحسن القول وعملوا أحسن العمل‏.‏ وذكر هذا الثناء عليهم بحسن قولهم عقب ذكر مذمة المشركين ووعيدُهم على سوء قولهم‏:‏ ‏{‏لا تسمعوا لهذا القرآن‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏، مشعر لا محالة بأن بين الفريقين بوناً بعيداً، طَرَفَاه‏:‏ الأحسنُ المصرحُ به، والأسوأُ المفهوم بالمقابلة، أي فلا يستوي الذين قالوا أحسنَ القول وعملوا أصلح العمل مع الذين قالوا أسوأ القول وعملوا أسوأَ العمل، ولهذا عقب بقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَسْتَوي الحَسَنة ولاَ السَّيِئَة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏‏.‏

والواو إما عاطفة على جملة ‏{‏إنَّ الذين قالوا ربُّنا الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏، أو حاليَّة من ‏{‏الذينَ قالُوا‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم نالوا ذلك إذْ لا أحسن منهم قولاً وعملاً‏.‏ ومَنْ‏}‏ استفهام مستعمل في النفي، أي لا أحد أحسن قولاً من هذا الفريق كقوله‏:‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للَّه‏}‏ الآية في سورة النساء ‏(‏125‏)‏‏.‏

و ‏{‏ممن دعا إلى اللَّه‏}‏‏:‏ كل أحد ثبت له مضمون هذه الصلة‏.‏ والدعاء إلى شيء‏:‏ أمر غيرك بالإقبال على شيء، ومنه قولهم‏:‏ الدعوة العباسية والدعوة العَلوية، وتسمية الواعظ عند بني عبيد بالداعي لأنه يدعو إلى التشيُّع لآل علي بن أبي طالب‏.‏ فالدعاء إلى الله‏:‏ تمثيل لحال الآمِرِ بإفراد الله بالعبادة ونبذ الشرك بحال من يدعو أحداً بالإِقبال إلى شخص، وهذا حال المؤمنين حين أعلنوا التوحيد وهو ما وُصفوا به آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِين قالوا ربُّنا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ كما علمتَ وقد كان المؤمنون يدعون المشركين إلى توحيد الله، وسيّدُ الداعين إلى الله هو محمد‏.‏ وقوله‏:‏ مِمَّن دعا إلى الله‏}‏ ‏(‏مِنْ‏)‏ فيه تفضيلية لاسْم ‏{‏أَحْسَنُ‏}‏، والكلام على حذف مضاف تقديره‏:‏ من قول من دعا إلى الله‏.‏ وهذا الحذف كالذي في قول النابغة‏:‏

وقد خِفت حتى ما تَزيد مخافتي *** على وَعِللٍ في ذي المَطارة عاقل

أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن البر من آمن باللَّه‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏177‏)‏‏.‏

والعمل الصالح‏:‏ هو العمل الذي يصلُح عامِلُه في دينه ودنياه صلاحاً لا يشوبه فساد، وذلك العمل الجاري على وفق ما جاء به الدين، فالعمل الصالح‏:‏ هو ما وصف به المؤمنون آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏ثمَّ استقاموا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وأما ‏{‏وَقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمِينَ‏}‏ فهو ثناء على المسلمين بأنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بين المشركين ولم يتستروا بالإسلام‏.‏

والاعتزاز بالدين عمل صالح ولكنه خص بالذكر لأنه أريد به غيظ الكافرين‏.‏ ومثال هذا ما وقع يوم أحد حين صَاح أبو سفيان‏:‏ اعْلُ هُبَلْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا‏:‏ «الله أعلى وأجلّ»

فقال أبو سفيان‏:‏ لنا العُزى ولا عُزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ‏"‏‏.‏ وإنما لم يذكر نظير هذا القول في الصلة المشيرة إلى سبب تنزّل الملائكة على المؤمنين بالكرامة وهي ‏{‏الذِينَ قَالُوا رَبُّنا الله ثُمَّ استقاموا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ لأن المقصود من ذكرها هنا الثناء عليهم بتفاخرهم على المشركين بعزة الإِسلام، وذلك من آثار تلك الصلة فلا حاجة إلى ذكره هنالك بخلاف موقعه هنا‏.‏

وفي هذه الآية منزع عظيم لفضيلة علماء الدين الذين بينوا السنن ووضحوا أحكام الشريعة واجتهدوا في التوصل إلى مراد الله تعالى من دينه ومن خَلْقه‏.‏ وفيها أيضاً منزع لطيف لتأييد قول الماتريدي وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم مُحمد بن سُحنون‏:‏ أن المسلم يقول‏:‏ أَنا مؤمن ولا يقول إن شاء الله خلافاً لقول الأشعري وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم محمد بن عَبدوس فنُقل أنه كان يقول‏:‏ أنا مؤمن إن شاء الله‏.‏ وقد تطاير شرر هذا الخلاف بين علماء القيروان مدة قرن‏.‏ والحق إنه خلاف لفظي كما بينه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ونقله عياض في «المدارك» ووافقه‏.‏ وذكرنا المسألة مفصلة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء اللَّه ربنا‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏89‏)‏ وبذلك فلا حجة في هذه الآية لأحد الفريقين وإنما الحجة في آية سورة الأعراف على الماتريدي ومحمد بن سحنون‏.‏ والقول في قوله‏:‏ ‏{‏وقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمين‏}‏ كالقول في ‏{‏إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنا الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

عَطْفُ هذه الجملة له موقع عجيب، فإنه يجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏وَمَن أحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَا إلى الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 33‏]‏ الخ تكملة لها فإن المعطوف عليها تضمنت الثناء على المؤمنين إثر وعيد المشركين وذمِّهم، وهذه الجملة فيها بيان التفاوت بين مرتبة المؤمنين وحال المشركين، فإن الحسنة اسم منقول من الصفة فتلمُّحُ الصفة مقارن له، فالحسنة حالة المؤمنين والسيئة حالة المشركين، فيكون المعنى كمعنى آيات كثيرة من هذا القبيل مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 58‏]‏، فعطف هذه الجملة على التي قبلها على هذا الاعتبار يكون من عطف الجمل التي يجمعها غرض واحد وليس من عطف غرض على غرض‏.‏ ويجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تَغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ الواقعة بعد جملة ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكِنَّة مِمَّا تدعُونَا إليه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فاعمل إننا عاملون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ فإن ذلك مثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم الضجر من إصرار الكافرين على كفرهم وعدم التأثر بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحق فهو بحال من تضيق طاقة صبره على سفاهة أولئك الكافرين، فأردف الله ما تقدم بما يدفع هذا الضيق عن نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السيئة‏}‏ الآية‏.‏

فالحسنة تعم جميع أفراد جنسها وأُولاها تبادراً إلى الأذهان حسنةُ الدعوة إلى الإسلام لما فيها من جمّ المنافع في الآخرة والدنيا، وتشمل صفة الصفح عن الجفاء الذي يلقَى به المشركون دعوةَ الإسلام لأن الصفح من الإحسان، وفيه ترك ما يثير حميتهم لدينهم ويقرب لين نفوس ذوي النفوس اللينة‏.‏ فالعطف على هذا من عطف غرض على غرض، وهو الذي يعبر عنه بعطف القصة على القصة، وهي تمهيد وتوطئة لقوله عقبها ‏{‏ادْفَع بالتي هِيَ أحْسَنُ‏}‏ الآية‏.‏

وقد علمتَ غير مرة أن نفي الاستواء ونحوه بين شيئين يراد به غالباً تفضيل أحدهما على مُقابله بحسب دلالة السياق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقوللِ الأعشى‏:‏

ما يُجْعَلُ الجُدُّ الضَّنُونُ الذي *** جُنِّبَ صَوْبَ اللَّجِببِ الماطر

مِثلَ الفُراتيِّ إذَا مَا طَمَا *** يَقْذِفُ بالبُوصِيِّ والماهرِ

فكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ ولا تستوي الحسنة والسيئة، دون إعادة ‏{‏لا‏}‏ النافية بعد الواو الثانية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 58‏]‏، فإعادة ‏{‏لا‏}‏ النافية تأكيد لأختها السابقة‏.‏ وأحسن من اعتبار التأكيد أن يكون في الكلام إيجاز حذف مؤذن باحتباك في الكلام، تقديره‏:‏ وما تسْتوي الحسنة والسيئةُ ولا السيئة والحسنة‏.‏ فالمراد بالأول نفي أن تلتحق فضائل الحسنة مساوئ السيئة، والمراد بالثاني نفي أن تلتحق السيئة بشرف الحسنة‏.‏ وذلك هو الاستواء في الخصائص، وفي ذلك تأكيد وتقوية لنفي المساواة ليدل على أنه نفي تام بين الجنسين‏:‏ جنسسِ الحسنة وجنس السيئة لا مبالغة فيه ولا مجازَ، وقد تقدم الكلام على نظيره في سورة فاطر‏.‏

وفي التعبير بالحسنة والسيئة دون المُحسن والمسيء إشارة إلى أن كل فريق من هذين قد بلغ الغاية في جنس وصفه من إحسان وإساءة على طريقة الوصف بالمصدر، وليتأتى الانتقال إلى موعظة تهذيب الأخلاق في قوله‏:‏ ‏{‏ادْفَع بالتي هي أحسن‏}‏، فيشبه أن يكون إيثارُ نفي المساواة بين الحسنة والسيئة توطئةً للانتقال إلى قوله‏:‏ ‏{‏ادْفَعَ بالتي هي أحسن‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ادْفَعَ بالتي هي أحسن‏}‏ يجري موقعُه على الوجهين المتقدمين في عطف جملة ‏{‏ولا تستوي الحسنة ولا السيئة‏}‏‏.‏

فالجملة على الوجه الأول من وجهي موقع جملة ‏{‏ولاَ تَسْتَوي الحسنة ولا السيئة‏}‏ تخلص من غرض تفضيل الحسنة على السيئة إلى الأمر بخُلق الدفع بالتي هي أحسن لمناسبةِ أَن ذلك الدفع من آثار تفضيل الحسنة على السيئة إرشاداً من الله لرسوله وأمته بالتخلق بخلق الدفع بالحسنى‏.‏ وهي على الوجه الثاني من وجهيْ موقع جملة ‏{‏ولاَ تَسْتَوي الحسنة ولا السيئة‏}‏ واقعة موقع النتيجة من الدليل والمقصدِ من المقدمة، فمضمونها ناشئ عن مضمون التي قبلها‏.‏

وكلا الاعتبارين في الجملة الأولى مقتض أن تكون جملة ‏{‏ادفَع بالتي هي أحْسَن‏}‏ مفصولة غير معطوفة‏.‏

وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لأن منتهى الكمال البشري خُلُقُه كما قال‏:‏ ‏"‏ إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ‏"‏‏.‏ وقالت عائشة لما سئلت عن خلُقه ‏(‏كان خلقه القرآن‏)‏ لأنه أفضل الحكماء‏.‏

والإحسان كمال ذاتي ولكنه قد يكون تركه محموداً في الحدود ونحوها فذلك معنىً خاص‏.‏ والكمال مطلوب لذاته فلا يعدل عنه ما استطاع ما لم يخش فوات كمال أعظم، ولذلك قالت عائشة‏:‏ «ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلاّ أن تُنتهك حرمات الله فيغضب لله»‏.‏ وتخلُّقُ الأمة بهذا الخلق مرغوب فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على اللَّه‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وروى عياض في «الشفاء» وهو مما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله وابنُ جرير في «تفسيره» لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ العفو‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ سألَ النبيءُ صلى الله عليه وسلم جبريلَ عن تأويلها فقال له‏:‏ حتى أسأل العالِم، فأتاه فقال‏:‏ «يا محمد إن الله يأمرك أن تَصِل من قطعك وتُعطيَ من حَرمَك وتعفوَ عمن ظلمك»‏.‏

ومفعول ‏{‏ادْفَع‏}‏ محذوف دل عليه انحصار المعنى بين السيئة والحسنة، فلما أمر بأن تكون الحسنة مدفوعاً بها تعيّن أن المدفوع هو السيئة، فالتقدير‏:‏ ادفع السيئة بالتي هي أحسن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويدرءون بالحسنة السيئة‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏22‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن السيئة‏}‏ في سورة المؤمنين ‏(‏96‏)‏‏.‏

و ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ هي الحسنة، وإنما صيغت بصيغة التفضيل ترغيباً في دفع السيئة بها لأن ذلك يشق على النفس فإن الغضب من سوء المعاملة من طباع النفس وهو يبعث على حب الانتقام من المسيء فلما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجازي السيئة بالحسنة أشير إلى فضل ذلك‏.‏

وقد ورد في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح»‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ذلك وصفه في التوراة‏.‏ وفرع على هذا الأمر قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا الذي بَيْنَك وبينه عداوة كأنَّه وليٌّ حَمِيمٌ‏}‏ لبيان ما في ذلك الأمر من الصلاح ترويضاً على التخلق بذلك الخُلق الكريم، وهو أن تكون النفس مصدراً للإحسان‏.‏ ولما كانت الآثار الصالحة تدل على صلاح مَثَارِها‏.‏ وأَمَرَ الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدفع بالتي هي أحسن أردفه بذكر بعض محاسنه وهو أن يصير العدو كالصديق، وحُسن ذلك ظاهر مقبول فلا جرم أن يدل حُسنه على حسن سببه‏.‏

ولذكر المُثُل والنتائج عقب الإرشاد شأن ظاهر في تقرير الحقائق وخاصة التي قد لا تقبلها النفوس لأنها شاقة عليها، والعداوة مكروهة والصداقة والولاية مرغوبة، فلما كان الإحسان لمن أساء يدنيه من الصداقة أو يُكسبه إياها كان ذلك من شواهد مصلحة الأمر بالدفع بالتي هي أحسن‏.‏

و ‏(‏إذا‏)‏ للمفاجأة، وهي كناية عن سرعة ظهور أثر الدفع بالتي هي أحسن في انقلاب العدوّ صديقاً‏.‏ وعدل عن ذكر العَدوّ معرفاً بلام الجنس إلى ذكره باسم الموصول ليتأتى تنكير عداوة للنوعية وهو أصل التنكير فيصدق بالعداوة القوية ودونِها، كما أن ظرف ‏{‏بَيْنَك وبَيْنَه‏}‏ يصدق بالبين القريب والبين البعيد، أعني ملازمة العداوة أو طُرُوَّها‏.‏

وهذا تركيب من أعلى طَرَف البلاغة لأنه يجمع أحوال العداوات فيعلم أن الإِحسان ناجع في اقتلاع عداوة المحسَن إليه للمحِسِن على تفاوت مراتب العداوة قوة وضعفاً، وتمكناً وبعداً، ويعلم أنه ينبغي أن يكون الإحسان للعدوّ قوياً بقدر تمكن عداوته ليكون أنجع في اقتلاعها‏.‏ ومن الأقوال المشهورة‏:‏ النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها‏.‏

والتشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كأنَّه وليُّ حَميمٌ‏}‏، تشبيه في زوال العداوة ومخالطة شوائب المحبة، فوجه الشبه هو المصافاة والمقاربة وهو معنى متفاوتُ الأحوال، أي مقول على جنسه بالتشكيك على اختلاف تأثر النفس بالإِحسان وتفاوت قوة العداوة قبلَ الإحسان، ولا يبلغ مبلغ المشبَّه به إذ من النادر أن يصير العدوّ وليّاً حميماً، فإنْ صاره فهو لعوارض غير داخلة تحت معنى الإِسراع الذي آذنتْ به ‏(‏إذا‏)‏ الفجائية‏.‏ والعداوةُ التي بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم عداوة في الدين، فالمعنى‏:‏ فإذا الذي بينك وبينه عداوة لكفره، فلذلك لا تشمل الآية من آمنوا بعدَ الكفر فزالت عداوتهم للنبيء صلى الله عليه وسلم لأجل إيمانهم كما زالت عداوة عمر رضي الله عنه بعد إسلامه حتى قال يوماً للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنتَ أحب إليّ من نفسي التي بين جنَبيَّ، وكما زالت عداوة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان إذ قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم ما كان أهل خِباءٍ أحبُّ إليّ من أن يذلُّوا مِن أهل خبائك واليومَ ما أهلُ خِباء أحبُّ إليَّ من أن يعِزُّوا من أهل خبائك فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً، أي وستزيدِين حباً‏.‏

وعن مقاتل‏:‏ أنه قال‏:‏ هذه الآية نزلت في أبي سفيان كان عدواً للنبيء صلى الله عليه وسلم في الجاهلية فصار بعد إسلامه ولياً مصافياً‏.‏ وهو وإن كان كما قالوا فلا أحسب أن الآية نزلت في ذلك لأنها نزلت في اكتساب المودة بالإِحسان‏.‏

والولي‏:‏ اسم مشتق من الوَلاية بفتح الواو، والولاء، وهو‏:‏ الحليف والناصر، وهو ضد العدو، وتقدم في غير آية من القرآن‏.‏

والحميم‏:‏ القريب والصديق‏.‏ ووجه الجمع بين ‏{‏وَلِيٌّ حَمِيمٌ‏}‏ أنه جمَع خصلتين كلتاهما لا تجتمع مع العداوة وهما خصلتا الولاية والقرابة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏، أو حال من ‏(‏التي هي أحسن‏)‏، وضمير ‏{‏يُلَقَّاهَآ‏}‏ عائد إلى ‏(‏التي هي أحسن‏)‏ باعتبار تعلقها بفعل ‏(‏ادْفَعْ‏)‏، أي بالمعاملة والمدافعة التي هي أحسن، فأما مطلق الحسنة فقد يحصل لغير الذين صبروا‏.‏

وهذا تحريض على الارتياض بهذه الخصلة بإظهار احتياجها إلى قوة عزم وشدة مراس للصبر على ترك هوى النفس في حب الانتقام، وفي ذلك تنويه بفضلها بأنها تلازمها خصلة الصبر وهي في ذاتها خصلة حميدة وثوابها جزيل كما علم من عدة آيات في القرآن، وحسبك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏ فالصابر مرتاض بتحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ فيهون عليه ترك الانتقام‏.‏

و ‏{‏يُلقَّاها‏}‏ يُجعل لاَقِياً لها، أي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقاهم نضرة وسروراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 11‏]‏، وهو مستعار للسعي لتحصيلها لأن التحصيل على الشيء بعد المعالجة والتخلق يشبه السعي لملاقاة أحد فيلقاه‏.‏ وجيء في ‏{‏يلقاها‏}‏ بالمضارع في الموضعين باعتبار أن المأمور بالدفع بالتي هي أحسن مأمور بتحصيل هذا الخلق في المستقبل، وجيء في الصلة وهي ‏{‏الَّذِينَ صَبَرُوا‏}‏ بالماضي للدلالة على أن الصبر خلُق سابق فيهم هو العون على معاملة المسيء بالحسنى، ولهذه النكتة عدل عن أن يقال‏:‏ إلا الصابرون، لنكتة كون الصبر سجية فيهم متأصلة‏.‏ ثم زيد في التنويه بها بأنها ما تَحْصُل إلا لِذي حظ عظيم‏.‏

والحظ‏:‏ النصيب من الشيء مطلقاً، وقيل‏:‏ خاص بالنصيب من خير، والمراد هنا‏:‏ نصيب الخير، بالقرينة أو بدلالة الوضع، أي ما يحصل دفع السيئة بالحسنة إلا لصاحب نصيب عظيم من الفضائل، أي من الخلق الحسن والاهتداء والتقوى‏.‏

فتحصَّل من هذين أن التخلق بالصبر شرط في الاضطلاع بفضيلة دفع السيئة بالتي هي أحسن، وأنه ليس وحده شرطاً فيها بل وراءه شروط أُخر يجمعها قوله‏:‏ ‏{‏حَظٍ عظيم‏}‏، أي من الأخلاق الفاضلة، والصبرُ من جملة الحظ العظيم لأن الحظ العظيم أعمّ من الصبر، وإنما خص الصبر بالذكر لأنه أصلها ورأس أمرها وعمودُها‏.‏

وفي إعادة فعل ‏{‏ومَا يُلقاها‏}‏ دون اكتفاء بحرف العطف إظهار لمزيد الاهتمام بهذا الخبر بحيث لا يستِتر من صريحه شيء تحتَ العاطف‏.‏

وأفاد ‏{‏ذُو حَظّ عَظِيمٍ‏}‏ أن الحظ العظيم من الخير سجيتُه وملكته كما اقتضته إضافة ‏{‏ذو‏}‏‏.‏ وحاصل ما أشار إليه الجملتان أنّ مِثْلَك من يتلقى هذه الوصية وما هي بالأمر الهيّن لكل أحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏36‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وما يلقاها إلا الذين صبروا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 35‏]‏، فبعد أن أُرشد إلى ما هو عون على تحصيل هذا الخلق المأمور به وهو دفع السيئة بالتي هي أحسن، وبعد أن شرحت فائدة العمل بها بقوله‏:‏ ‏{‏فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏ صُرِف العنان هنا إلى التحذير من عوائقها التي تجتمع كثرتها في حقيقة نزغ الشيطان، فأمر بأنه إن وجد في نفسه خواطر تَصْرِفه عن ذلك وتدعوه إلى دفع السيئة بمثلها فإن ذلك نزغ من الشيطان دواؤه أن تستعيذ بالله منه فقد ضمن الله له أن يعيذه إذا استعاذه لأنه أمره بذلك، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم

وفائدة هذه الاستعاذة تجديد داعية العصمة المركوزة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم لأن الاستعاذة بالله من الشيطان استمداد للعصمة وصقل لزكاء النفس مما قد يقترب منها من الكدرات‏.‏ وهذا سر من الاتصال بين النبي صلى الله عليه وسلم وربه وقد أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنه لَيُغانَ على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» فبذلك تسلم نفسه من أن يغشَاها شيء من الكدرات ويلحق به في ذلك صالحو المؤمنين‏.‏

وفي الحديث القدسي عند الترمذي «ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحِبَّه فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأُعطينَّه ولئن استعاذني لأعِيذَنَّه»‏.‏ ثم يلتحق بذلك بقية المؤمنين على تفاوتهم كما دل عليه حديث ابن مسعود عند الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن للشيطان لَمّة بابن آدم وللمَلَك لَمَّة، فأما لَمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لَمة الملَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليستعذ بالله من الشيطان»‏.‏

والنزغ‏:‏ النخس، وحقيقته‏:‏ مسّ شديد للجِلد بِطرَف عُود أو إصبَع، فهو مصدر، وهو هنا مستعار لاتصال القوة الشيطانية بخواطر الإنسان تأمره بالشر وتصرفه عن الخير، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ باللَّه إنه سميع عليم‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏200‏)‏ وإسناد ‏{‏يَنزَغَنَّكَ‏}‏ إلى ‏{‏نَزْغٌ‏}‏ مجاز عقلي من باب‏:‏ جدّ جدّه، و‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية‏.‏ ويجوز أن يكون المراد بالنزغ هنا‏:‏ النازغ، وهو الشيطان، وصف بالمصدر للمبالغة، و‏{‏من‏}‏ بيانية، أي ينزغنّك النازغ الذي هو الشيطان‏.‏ والمبالغة حاصلة على التقديرين مع اختلاف جهتها‏.‏

وجيء في هذا الشرط ب ‏(‏إنْ‏)‏ التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط ترفيعاً لقدر النبي صلى الله عليه وسلم فإن نزغ الشيطان له إنما يفرض كما يفرض المُحال، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏

‏{‏إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏ فجاء في ذلك الشرط بحرف ‏(‏إذا‏)‏ التي الأصل فيها الجزم بوقوع الشرط أو بغلبة وقوعه‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ زائدة بعد حرف الشرط لتوكيد الربط بين الشرط وجوابه وليست لتحقيق حصول الشرط فإنها تزاد كثيراً بعد ‏(‏إن‏)‏ دون أن تكون دالة على الجزم بوقوع فعل الشرط‏.‏

وضمير الفصل في قوله‏:‏ إنَّه هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ‏}‏ لتقوية الحكم وهو هنا حكم كِنائي لأن المقصود لازمُ وصف السميع العليم وهو مؤاخذة من تصدر منهم أقوال وأعمال في أذى النبي صلى الله عليه وسلم والكيدِ له ممن أُمِر بأن يدفع سيئاتهم بالتي هي أحسن‏.‏ والمعنى‏:‏ فإن سوّل لك الشيطان أن لا تعامل أعداءك بالحسنة وزين لك الانتقام وقال لك‏:‏ كيف تحسن إلى أعداء الدين، وفي الانتقام منهم قطعُ كيدهم للدين، فلا تأخذ بنزغه وخذ بما أمرناك واستعذ بالله من أن يزلّك الشيطان فإن الله لا يخفى عليه أمر أعدائك وهو يتولى جزاءهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏قُل أينَّكُم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ الآية عطف القصة على القصة فإن المقصود من ذكر خلق العوالم أنها دلائل على انفراد الله بالإِلهية، فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنها من آيات الله انتقالاً في أفانين الاستدلال فإنه انتقال من الاستدلال بذواتتٍ من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات، فابتدئ ببعض الأحوال السماوية وهي حال الليل والنهار، وحال طلوع الشمس وطلوع القمر، ثم ذكر بعده بعض الأحوال الأرضية بقوله‏:‏ ‏{‏ومن ءاياته أنك ترى الأرض خاشعة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 39‏]‏‏.‏

ويدل لهذا الانتقال أنه انتقل من أسلوب الغيبة من قوله‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا تستوي الحسنة ولا السيئة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13 34‏]‏ إلى أسلوب خطابهم رجوعاً إلى خطابهم الذي في قوله‏:‏ ‏{‏أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏‏.‏

والآيات‏:‏ الدلائل، وإضافتها إلى ضمير الله لأنها دليل على وحدانيته وعلى وجوده‏.‏

واختلافُ الليل والنهار آية من آيات القدرة التي لا يفعلها غير الله تعالى، فلا جرم كانت دليلاً على انفراده بالصنع فهو منفرد بالإِلهية‏.‏ وتقدم الكلام على الليل والنهار عند قوله تعالى في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار‏}‏‏}‏‏.‏

والمراد بالشمس والقمر ابتداءً هنا حركتُهما المنتظمة المستمرة، وأمّا خلقهما فقد علم من خلق السماوات والأرض كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏فقضاهن سبع سموات‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏، فإن الشمس إحدى السماوات السبع والقمر تابع للشمس، ولم يُذكر ما يدل على بعض أحوال الشمس والقمر مثل طلُوع أو غروببٍ أو فَلَك أو نحو ذلك ليَكون صالحاً للاستدلال بأحوالهما وهو المقصود الأول، ولخلقهما تأكيد لما استفيد من قوله‏:‏ ‏{‏فقضاهن سَبْعَ سموات‏}‏ توفيراً للمعاني‏.‏

ولما جرى الاعتبار بالشمس والقمر وكان في الناس أقوام عبدوا الشمس والقمر وهم الصابئة ومنبعهم من العراق من زمن إبراهيم عليه السلام، وقد قصَّ الله خبرَهم في سورة الأنعام ‏(‏76‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي‏}‏ الآيات، ثم ظهر هذا الدين في سبأ، عبدوا الشمس كما قصه الله في سورة النمل‏.‏ ولم أقف على أن العرب في زمن نزول القرآن كان منهم من يعبد الشمس والقمر، ويَظهر من كلام الزمخشري أنه لم يقف على ذلك لقوله هنا‏:‏ ‏(‏لعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر‏)‏ ا ه‏.‏ ولكن وجود عبادة الشمس في اليمن أيام سبأ قبل أن يتهَوَّدُوا يقتضي بقاء آثاره من عبادة الشمس في بعض بلاد العرب‏.‏ وقد ذكر من أصنام العرب صنم اسمه ‏(‏شَمس‏)‏ وبه سموا ‏(‏عبدَ شمس‏)‏، وكذلك جعلهم من أسماء الشمس الإلهة، قالت مَيَّة بنتُ أم عتبة‏:‏

تروَّحْنَا من اللَّعْبَاء عَصْراً *** فأعْجَلْنا الإِلهةَ أن تؤوبا

وكان الصنم الذي اسمه شمس يَعبده بنو تميم وضبة وَتَيْم وعُكْل وأُدّ‏.‏

وكنت وقفت على أن بعض كنانة عبدوا القمر‏.‏

وفي «تلخيص التفسير» للكواشي‏:‏ ‏(‏وكان الناس يسجدون للشمس والقمر يزعمون أنهم يقصدون بذلك السجود للَّه كالصابئين فنهوا عن ذلك وأمروا أن يخصوه تعالى بالعبادة‏)‏ وليس فيه أن هؤلاء الناس من العرب، على أن هدي القرآن لا يختص بالعرب بل شيوع دين الصابئة في البلاد المجاورة لهم كاف في التحذير من السجود للشمس والقمر‏.‏ وقد كان العرب يحسبون دين الإسلام دين الصابئة فكانوا يقولون لمن أسلم‏:‏ صَبَأَ، وكانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالصابئ، فإذا لم يكن النهي في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسسِ ولاَ للقَمَرِ‏}‏ نهيَ إقلاع بالنسبة للذين يسجدون للشمس والقمر، فهو نهي تحذير لمن لم يسجد لهما أن لا يتبعوا من يعبدونهما‏.‏

ووقوع قوله‏:‏ ‏{‏واسْجُدُوا لله الذِي خَلَقَهُنَّ‏}‏ بعد النهي عن السجود للشمس والقمر يفيد مفاد الحصر لأن النهي بمنزلة النفي، ووقوع الإِثبات بعده بمنزلة مقابلة النفي بالإِيجاب، فإنه بمنزلة النفي والاستثناء في إفادة الحصر كما تراه في قول السموأل أو عبد الملك الحارثي‏:‏

تسيل على حد الظبات نفوسنا *** وليست على غير الظبات تسيل

فكأنه قيل‏:‏ لا تسجدوا إلا لله، أي دون الشمس والقمر‏.‏

فجملة ‏{‏لا تَسْجدوا للشَّمس‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏تَعْبُدُونَ‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏وَمِن ءاياته الليَّلُ والنَّهَارُ‏}‏، وبين جملة ‏{‏فَإنْ استَكْبَرُوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وفي هذه الآية موضع سجود من سجود التلاوة، فقال مالك وأصحابه عدا ابن وهب‏:‏ السجود عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم إيَّاهُ تعبدون‏}‏ وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود، وروي عن الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي في المشهور عنه وابنُ وهب‏:‏ هي عند قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لا يَسْأمُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 38‏]‏، وهو عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

الفاء للتفريع على نهيهم عن السجود للشمس والقمر وأمرِهم بالسجود لله وحده، أي فإن استكبروا أن يتبعوك وصمموا على السجود للشمس والقمر، أو فإن استكبروا عن الاعتراف بدلالة الليل والنهار والشمس والقمر على تفرد الله بالإِلهية ‏(‏فيعم ضمير ‏{‏اسْتَكْبَرُوا‏}‏ جميع المشركين‏)‏ فالله غني عن عبادتهم إياه‏.‏

والاستكبار‏:‏ قوة التكبر، فالسين والتاء للمبالغة وأصل السين والتاء المستعملين للمبالغة هما السين والتاء للحسبان، أي عدوا أنفسهم ذوي كبر شديد من فرط تكبرهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فالذِينَ عِندَ رَبِّكَ‏}‏ دليل جواب الشرط‏.‏ والتقدير‏:‏ فإن تكبروا عن السجود لله فهو غني عن سجودهم، لأن له عبيداً أفضل منهم لا يفترون عن التسبيح له بإقبال دون سآمة‏.‏

والمراد بالتسبيح‏:‏ كل ما يدل على تنزيه الله تعالى عما لا يليق به بإثبات أضداد ما لا يليق به، أو نفي ما لا يليق، وذلك بالأقوال قال تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏، أو بالأعمال قال‏:‏ ‏{‏ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 49 50‏]‏ وذلك ما يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يسأمون‏}‏ من كون ذلك التسبيح قولاً وعملاً وليس مجرد اعتقاد‏.‏

والعِندية في قوله‏:‏ ‏{‏عِنْدَ رَبِّكَ‏}‏ عندية تشريف وكرامة كقوله في سورة الأعراف ‏(‏206‏)‏ ‏{‏إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون‏}‏ وهؤلاء الملائكة هم العامرون للعوالم العليا التي جعلها الله مشرفة بأنها لا يقع فيها إلا الفضيلة فكانت بذلك أشد اختصاصاً به تعالى من أماكنَ غيرها قصداً لتشريفها‏.‏

والسآمة‏:‏ الضجر والملل من الإِعياء‏.‏ وذكر الليل والنهار هنا لقصد استيعاب الزمان، أي يسبحون له الزمان كله‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لا يَسْأَمُون‏}‏ في موضع الحال وهو أوقع من محمل العطف لأن كون الإِخبار عنهم مقيداً بهذه الحال أشد من إظهار عجيب حالهم إذ شأن العمل الدائم أن يسلم منه عامله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْھَمُونَ * وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الارض خاشعة فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ومِن آياته الليل والنهار‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏، وهذا استدلال بهذا الصنع العظيم على أنه تعالى منفرد بفعله فهو دليل إلهيته دون غيره لأن من يفعل ما لا يفعله غيره هو الإِله الحق وإذا كان كذلك لم يجز أن يتعدد لكون من لا يفعل مثل فعله ناقص القدرة، والنقص ينافي الإِلهية كما قال‏:‏ ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّكَ‏}‏ لغير معيّن ليصلح لكل سامع‏.‏

والخشوع‏:‏ التذلل، وهو مستعار لحال الأرض إذا كانت مقحطة لا نبات عليها لأن حالها في تلك الخصاصة كحال المتذلّل، وهذا من تشبيه المحسوس بالمعقول باعتبار ما يتخيله الناس من مشابهة اختلاف حالي القحولة والخصب بحالي التذلل والازدهاء‏.‏

والاهتزاز حقيقته‏:‏ مطاوعة هزّهُ، إذا حرَّكه بعد سكونه فتحرّك‏.‏ وهو هنا مستعار لربّو وجه الأرض بالنبات، شبّه حال إنباتها وارتفاعها بالماء والنبات بعد أن كانت منخفضة خامدة بالاهتزاز‏.‏ ويؤخذ من مجموع ذلك أن هذا التركيب تمثيل، شُبه حال قحولة الأرض ثم إنزال الماء عليها وانقلابها من الجدوبة إلى الخِصب والإنباتتِ البهيج بحال شخص كان كاسف البال رثّ اللباس فأصابه شيء من الغنى فلبس الزينة واختال في مشيته زُهُوًّا، ولذا يقال‏:‏ هَز عطفيه، إذا اختال في مشيته‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏خاشعة‏}‏ و‏{‏اهْتَزَّتْ‏}‏ مكنية بأن شبهت بشخص كان ذليلاً ثم صار مهتزًّا لعطْفيْه ورمز إلى المشبه بهما بذكر رديفيهما‏.‏ فهذا من أحسن التمثيل وهو الذي يقبل تفريق أجزائه في أجزاء التشبيه‏.‏

وعطف ‏{‏وَرَبَتْ‏}‏ على ‏{‏اهْتَزَّتْ‏}‏ لأن المقصود من الاهتزاز هو ظهور النبات عليها وتحركه‏.‏ والمقصود بالربوّ‏:‏ انتفاخُها بالماء واعتلاؤها‏.‏

وقرأ أبو جعفر ‏{‏وربأت‏}‏ بهمزة بعد الموحدة من ‏(‏ربَأ‏)‏ بالهمز، إذا ارتفع‏.‏

‏{‏وَرَبَتْ إِنَّ الذى أحياها لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَئ‏}‏

إدماج لإِثبات البعث في أثناء الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق والتدبير، ووقوعه على عادة القرآن في التفنن وانتهاز فرص الهدى إلى الحق‏.‏

والجملة استئناف ابتدائي والمناسبة مشابهة الإِحياءين، وحرف التوكيد لمراعاة إنكار المخاطبين إحياء الموتى‏.‏

وتعريف المسند إليه بالموصولية لما في الموصول من تعليل الخبر، وشُبه إمداد الأرض بماء المطر الذي هو سبب انبثاق البزور التي في باطنها التي تصير نباتاً بإحياء الميت، فأطلق على ذلك ‏{‏أحْيَاهَا‏}‏ على طريق الاستعارة التبعية، ثم ارتُقي من ذلك إلى جَعل ذلك الذي سمي إحياء لأنه شبيه الإحياء دليلاً على إمكان إحياء الموتى بطريقة قياس الشبه، وهو المسمى في المنطق قياس التمثيل، وهو يفيد تقريب المقيس بالمقيس عليه‏.‏ وليس الاستدلال بالشبه والتمثيل بحجة قطعية، بل هو إقناعي ولكنه هنا يصيرُ حجة لأن المقيس عليه وإن كان أضعف من المقيس إذ المشبه لا يبلغ قوة المشبه به، فالمشبه به حيث كان لا يَقدر على فعله إلا الخالق الذي اتصف بالقدرة التامة لذاته فقد تساوى فيه قويُّه وضعيفه، وهم كانوا يحيلون إحياء الأموات استناداً للاستبعاد العادي، فلما نُظِّر إحياء الأموات بإحياء الأرض المشبه تم الدليل الإقناعي المناسب لشبهتهم الإِقناعية‏.‏ وقد أشار إلى هذا تذييله بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏قَدِيرٌ * إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فى ءاياتنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتى ءَامِناً يَوْمَ القيامة اعملوا مَا شِئْتُمْ‏}‏

استئناف ابتدائي قصد به تهديد الذين أهملوا الاستدلال بآيات الله على توحيده‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يخفون علينا‏}‏ مراد به الكناية عن الوعيد تذكيراً لهم بإحاطة علم الله بكل كائن، وهو متصل المعنى بقوله آنفاً‏:‏ ‏{‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 22‏]‏ الآية‏.‏

والإِلحاد حقيقته‏:‏ الميل عن الاستقامة، والآيات تشمل الدلائل الكونية المتقدمة في قوله‏:‏ ‏{‏قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن آياته الليل والنهار‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏ الخ‏.‏ وتشمل الآيات القولية المتقدمة في قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ فالإِلحاد في الآيات مستعار للعدول والانصراف عن دلالة الآيات الكونية على ما دلت عليه‏.‏ والإلحاد في الآيات القولية مستعار للعدول عن سَماعها وللطعن في صحتها وصرف الناس عن سماعها‏.‏

وحرف ‏{‏في‏}‏ مِن قوله‏:‏ ‏{‏فِي ءاياتنا‏}‏ للظرفية المجازية لإِفادة تمكن إلحادهم حتى كأنه مظروف في آيات الله حيثما كانت أو كلما سمعوها‏.‏ ومعنى نفي خفائهم‏:‏ نفي خفاء إلحادهم لا خفاء ذواتهم إذ لا غرض في العلم بذواتهم‏.‏

‏{‏عَلَيْنَآ أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتى ءَامِناً يَوْمَ‏}‏‏.‏

تفريع على الوعيد في قوله‏:‏ ‏{‏لا يَخْفُونَ عَلَيْنَا‏}‏ لبيان أن الوعيد بنار جهنم تعريض بالمشركين بأنهم صائرون إلى النار، وبالمؤمنين بأنهم آمنون من ذلك‏.‏

والاستفهام تقريع مستعمل في التنبيه على تفاوت المرتبتين‏.‏

وكنّي بقوله‏:‏ ‏{‏يَأتِي ءَامِناً‏}‏ أن ذلك الفريق مصيره الجنة إذ لا غاية للأمن إلا أنه في نعيم‏.‏ وهذه كناية تعريضية بالذين يُلحدون في آيات الله‏.‏

وفي الآية محسن الاحتباك، إذ حذف مقابل‏:‏ ‏(‏من يُلقَى في النار‏)‏ وهو‏:‏ من يدخل الجنة، وحذف مقابل‏:‏ ‏{‏مَن يأتي ءامناً‏}‏ وهو‏:‏ من يأتي خائفاً، وهم أهل النار‏.‏

‏{‏القيامة اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏

الجملة تذييل لجملة ‏{‏إنَّ الذين يُلْحِدون في ءاياتنا‏}‏ الخ، كما دل عليه قوله عقبه‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ الآية، أي لا يخفى علينا إلحادهم ولا غيره من سيِّئ أعمالهم‏.‏ وإنما خص الإِلحاد بالذكر ابتداء لأنه أشنع أعمالهم ومصدر أسوائها‏.‏

والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏اعْمَلُوا ما شِئْتُم‏}‏ مستعمل في التهديد، أو في الإِغراء المكنّى به عن التهديد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنَّه بِمَا تعمَلونُ بَصِيرٌ‏}‏ وعيد بالعقاب على أعمالهم على وجه الكناية‏.‏

وتوكيده ب ‏(‏إنَّ‏)‏ لتحقيق معنييه الكنائي والصريح، وهو تحقيق إحاطة علم الله بأعمالهم لأنهم كانوا شاكين في ذلك كما تقدم في قصة الثلاثة الذين نزل فيهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 22‏]‏ الآية‏.‏

والبصير‏:‏ العليم بالمبصرات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏‏}‏

أعقب تهديدهم على الإِلحاد في آيات الله على وجه العموم بالتعرض إلى إلحادهم في آيات القرآن وهو من ذكر الخاص بعد العام للتنويه بخصال القرآن وأنه ليس بعُرضَةٍ لأن يُكفر به بل هو جدير بأن يتقبل بالاقتداء والاهتداء بهديه، فلهذه الجملة اتصال في المعنى بجملة‏:‏ ‏{‏إن الذين يلحدون في آياتنا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ واتصال في الموقع بجملة ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وتحديد هذين الاتصالين اختلفت فيه آراء المفسرين، وعلى اختلافهم فيهما جرى اختلافهم في موقعها من الإعراب وفي مواقع أجزائها من تصريح وتقدير‏.‏

فجعل صاحب «الكشاف» قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذِين كَفَروا بالذِّكر‏}‏ بدلاً من قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يُلحِدُونَ في آياتنا، وهو يريد أنه إبدال المفرد من المفرد بدلاً مطابقاً أو بدل اشتمال، وأنه بتكرير العامل وهو حرف إنَّ‏}‏ وإن كانت إعادة العامل مع البدل غير مشهورة إلاّ في حرف الجر كما قال الرضيّ، فكلام الزمخشري في «المفصل» يقتضي الإِطلاق، وإن كان أتى بمثالين عاملهما حرف جر‏.‏

وعلى هذا القول لا يقدر خبر لأن الخبر عن المبدل منه خبر عن البدل وهو قوله‏:‏ ‏{‏لا يَخْفَون علينا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وعن أبي عمرو بن العلاء والكسائي وعمرو بن عبيد ما يقتضي أنهم يجعلون جملة‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين كفروا بالذِكْر‏}‏ جملة مستقلة لأنهم جعلوا ل ‏{‏إن‏}‏ خبراً‏.‏ فأما أبو عمرو فقال‏:‏ خبر ‏{‏إن‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏‏.‏

حكي أن بلال بن أبي بردة سئل في مجلس أبي عمرو بن العلاء عن خبر ‏{‏إن‏}‏ فقال‏:‏ لم أجد لها نفاذاً، فقال له أبو عمرو‏:‏ إنه منك لقريب‏:‏ ‏{‏أولئك ينادون من مكان بعيد‏.‏ وهو يقتضي جعل الجمل التي بين اسم إنَّ‏}‏ وخبرها جملاً معترضة وهي نحو سبع‏.‏ وأما الكسائي وعمرو بن عبيد فقدروا خبراً لاسم ‏{‏إن‏}‏ فقال الكسائي‏:‏ الخبر محذوف دل عليه قوله قبله‏:‏ ‏{‏أفمن يلقى في النار خير‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏، فنقدر الخبر، يُلقون في النار، مثلاً‏.‏ وسأل عيسى بنُ عمر عمرو بن عبيد عن الخبر، فقال عمرو‏:‏ معناه أن الذين كفروا بالذكر كفروا به وإنه لكتاب عزيز‏.‏ فقال عيسى‏:‏ أجدتَ يا أبا عثمان‏.‏ ويجيء على قول هؤلاء أن تكون الجملة بدلاً من جملة‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يُلْحدون في آياتِنا بدل اشتمال إن أريد بالآيات في قوله‏:‏ في ءاياتنا مطلق الآيات، أو بدلاً مطابقاً إن أريد بالآيات آيات القرآن‏.‏ وقيل الخبر قوله‏:‏ ‏{‏ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 43‏]‏، أي ما يقال لك فيهم إلا ما قد قلنا للرسل من قبلك في مكذبيهم، أو ما يقولون إلا كما قاله الأمم للرسل من قبلك، وما بينهما اعتراض‏.‏

والكفر بالقرآن يشمل إنكار كل ما يوصف به القرآن من دلائل كونه من عند الله وما اشتمل عليه مما خالف معتقدهم ودين شركهم وذلك بالاختلافات التي يختلفونها كقولهم‏:‏ سحر، وشعر، وقول كاهن، وقول مجنون، ولو نشاء لقلنا مثل هذا، وأساطير الأولين، وقلوبنا في أكنّة، وفي آذاننا وقر‏.‏

والأظهر أن تكون جملة ‏{‏إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالذِّكْرِ‏}‏ الخ واقعة موقع التعليل للتهديد بالوعيد في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَخْفَونَ عَلَيْنا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لأنهم جديرون بالعقوبة إذ كفروا بالآيات، وهي آية القرآن المؤيد بالحق، وبشهادة ما أوصي إلى الرسل من قوله‏.‏

وموقع إن‏}‏ موقع فاء التعليل‏.‏ وخبر ‏{‏إنّ‏}‏ محذوف دل عليه سياق الكلام‏.‏ والأحسن أن يكون تقديره بما تدل عليه جملةُ الحال من جلالة الذكر ونفاسته، فيكون التقدير‏:‏ خسروا الدنيا والآخرة، أو سفهوا أنفسهم أو نحو ذلك مما تذهب إليه نفس السامع البليغ، ففي هذا الحذف توفير للمعاني وإيجاز في اللفظ يقوم مقام عدة جمل، وحَذْفُ خبرِ ‏{‏إنّ‏}‏ إذا دل عليه دليل وارد في الكلام‏.‏ وأجازه سيبويه في باب ما يحسن السكوت عليه من هذه الأحرف الخمسة، وتبعه الجمهور، وخالفه الفراء فشرطه بتكرر ‏{‏إنّ‏}‏‏.‏ ومن الحذف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام‏}‏ الآية في سورة الحج ‏(‏25‏)‏، وأنشد سيبويه‏:‏

يا ليت أيام الصبا رواجعا ***

إذ روي بنصب ‏(‏رواجعا‏)‏ على الحال فلم يذكر خبر ‏(‏ليت‏)‏‏.‏

وذكر أن العرب يقولون‏:‏ «إنّ مالاً وإنَّ وَلَداً» أي إِنَّ لهم، وقول الأعشى‏:‏

إنَّ مَحلاًّ وإِنَّ مُرْتَحَلا ***

أي أن لنا في الدنيا حلولاً ولنا عنها مرتحلاً، إذ ليس بقية البيت وهو قوله‏:‏

وإن في السَّفر إذ مَضَوْا مَهَلا ***

ما يصح وقوعه خبراً عن ‏(‏إنّ‏)‏ الأولى‏.‏ وقال جميل‏:‏

وقالوا نراها يا جميل تنكرتْ *** وغَيَّرها الواشي فقلتُ لعلَّها

وقال الجاحظ في «البيان» في باب من الكلام المحذوف عن الحسن‏:‏ أن المهاجرين قالوا‏:‏ ‏"‏ يا رسول الله إن الأنصار آوونا ونصرونا، قال النبي صلى الله عليه وسلم تعرفون ذلك لهم، قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فإن ذلك ليس في الحديث غير هذا ‏"‏ يريد فإن ذلك شكر ومكافأة ا ه‏.‏ وفي المقامة الثالثة والأربعين «حسبك يا شيخُ فقد عرفتُ فنَّك، واستبنتُ أنك» أي أنك أبو زيد‏.‏ وقد مثل في «شرح التسهيل» لحذف خبر ‏(‏إنَّ‏)‏ بهذه الآية‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وَإنَّهُ لكتاب‏}‏ الخ في موضع الحال من الذِّكْر، أي كفروا به في حاله هذا، ويجوز أن تكون الجملة عطفاً على جملة‏:‏ ‏{‏إنَّ الذينَ كَفَروا بالذِّكْر‏}‏ على تقدير خبر ‏{‏إن‏}‏ المحذوف‏.‏ وقد أجري على القرآن ستة أوصاف ما منها واحد إلا وهو كمال عظيم‏:‏

الوصف الأول‏:‏ أنه ذِكر، أي يذكِّر الناس كلهم بما يغفلون عنه مما في الغفلة عنه فوات فوزهم‏.‏

الوصف الثاني من معنى الذكر‏:‏ أنه ذكر للعرب وسُمعة حسنة لهم بين الأمم يخلد لهم مفخرة عظيمة وهو كونه بلغتهم ونزل بينهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لما جاءهم‏}‏ إشارة إلى هذا المعنى الثاني‏.‏

الوصف الثالث‏:‏ أنه كتاب عزيز، والعزيز النفيس، وأصله من العزة وهي المنعة لأن الشيء النفسي يدافعَ عنه ويُحمَى عن النبذ فإنه بيِّن الإِتقان وعلوِّ المعاني ووضوح الحجة ومثل ذلك يكون عزيزاً، والعزيز أيضاً‏:‏ الذي يَغلب ولا يُغلب، وكذلك حجج القرآن‏.‏

الوصف الرابع‏:‏ أنه لا يتطرقه الباطل ولا يخالطه صريحُه ولا ضمنيُّه، أي لا يشتمل على الباطل بحال‏.‏ فمُثِّل ذلك بِ ‏{‏من بين يديه ولا من خلفه‏}‏‏.‏

والمقصود استيعاب الجهات تمثيلاً لحال انتفاء الباطل عنه في ظاهره وفي تأويله بحال طرد المهاجم ليضر بشخص يأتيه من بين يديه فإن صدّه خاتله فأتاه من خلفه، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لآتِيَنّهم من بين أيديهم ومن خلفهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏‏.‏

فمعنى‏:‏ لا يأتِيهِ الباطل‏}‏ لا يوجد فيه ولا يداخله، وليس المراد أنه لا يُدعَى عليه الباطل‏.‏

الوصف الخامس‏:‏ أنه مشتمل على الحكمة وهي المعرفة الحقيقية لأنه تنزيل من حكيم، ولا يصدر عن الحكيم إلا الحكمة‏:‏ ‏{‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏ فإن كلام الحكيم يأتي محكماً متقناً رصيناً لا يشوبه الباطل‏.‏

الوصف السادس‏:‏ أنه تنزيل من حميد، والحميد هو المحمود حمداً كثيراً، أي مستحقّ الحمد الكثير، فالكلام المنزل منه يستحق الحمد وإنما يحمد الكلام إذْ يكون دليلاً للخيرات وسائقاً إليها لا مطعن في لفظه ولا في معناه، فيحمده سامعه كثيراً لأنه يجده مجلبة للخير الكثير، ويحمد قائله لا محالة خلافاً للمشركين‏.‏

وفي إجراء هذه الأوصاف إيماء إلى حماقة الذين كفروا بهذا القرآن وسفاهة آرائهم إذ فرطوا فيه ففرطوا في أسباب فوزهم في الدنيا وفي الآخرة ولذلك جيء بجملة الحال من الكتاب عقب ذكر تكذيبهم إياه فقال‏:‏ ‏{‏وَإنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ‏}‏ الآيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏حَمِيدٍ * مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو‏}‏‏.‏

استئناف بياني جواب لسؤال يثيره قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ وما تخلل ذلك من الأوصاف فيقول سائل‏:‏ فما بال هؤلاء طعنوا فيه‏؟‏ فأجيب بأن هذه سنة الأنبياء مع أممهم لا يعدمون معاندين جاحدين يكفرون بما جاءوا به‏.‏ وإذا بنيت على ما جوزته سابقاً أن يكون جملة‏:‏ ‏{‏مَّا يُقَالُ‏}‏ خبر ‏{‏إنّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ كانت خبراً وليست استئنافاً‏.‏

وهذا تسلية للنبيء بطريق الكناية وأمر له بالصبر على ذلك كما صبر من قبله من الرسل بطريق التعريض‏.‏ ولهذا الكلام تفسيران‏:‏

أحدهما‏:‏‏}‏ أن ما يقوله المشركون في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم هو دأب أمثالهم المعاندين من قَبلهم فما صدقُ ‏{‏مَا قَدْ قِيلَ للِرُّسُلِ‏}‏ هو مقالات الذين كذبوهم، أي تشابهت قلوب المكذبين فكانت مقالاتهم متماثلة قال تعالى‏:‏ ‏{‏أتواصوا به‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 53‏]‏‏.‏

التفسير الثاني‏:‏ ما قُلنا لك إلا ما قلناه للرسل من قبلك، فأنت لم تكن بدعاً من الرسل فيكون لقومك بعض العذر في التكذيب ولكنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم، فمَا صدقُ‏:‏ ‏{‏مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسل‏}‏ هو الدين والوحي فيكون من طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا لفي الصحف الأولى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وكلا المعنيين وارد في القرآن فيحمل الكلام على كليهما‏.‏

وفي التعبير ب ‏{‏ما‏}‏ الموصولة وفي حذف فاعل القولين في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا يُقَالُ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا قَدْ قِيلَ‏}‏ نظم متين حمَّل الكلام هذين المعنيين العظيمين، وفي قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ ما قَدْ قِيل للرسل‏}‏ تشبيه بليغ‏.‏ والمعنى‏:‏ إلا مثل ما قد قيل للرسل‏.‏

واجتلاب المضارع في ‏{‏مَا يُقَال‏}‏ لإِفادة تجدد هذا القول منهم وعدم ارعوائهم عنه مع ظهور ما شأنه أن يصدهم عن ذلك‏.‏

واقتران الفعل ب ‏{‏قد‏}‏ لتحقيق أنه قد قيل للرسل مثل ما قال المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم فهو تأكيد للازم الخبر وهو لزوم الصبر على قولهم‏.‏ وهو منظور فيه إلى حال المردود عليهم إذ حسبوا أنهم جابهوا الرسول بما لم يخطر ببال غيرهم، وهذا على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52، 53‏]‏‏.‏

‏{‏قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ‏}‏

تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بأن الله يغفر له‏.‏ ووقوع هذا الخبر عقب قوله‏:‏ ‏{‏ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏}‏ يومئ إلى أن هذا الوعد جزاء على ما لقيه من الأذى في ذات الله وأن الوعيد للذين آذوه، فالخبر مستعمل في لازمه‏.‏

ومعنى المغفرة له‏:‏ التجاوز عما يلحقه من الحزن بما يسمع من المشركين من أذى كثير‏.‏ وحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ فيه لإِفادة التعليل والتسبب لا للتأكيد‏.‏

وكلمة ‏{‏ذو‏}‏ مؤذنة بأن المغفرة والعقاب كليهما من شأنه تعالى وهو يضعهما بحكمته في المواضع المستحقة لكل منهما‏.‏

ووصف العقاب ب ‏{‏أَلِيمٍ‏}‏ دون وصف آخر للاشارة إلى أنه مناسب لما عوقبوا لأجله فإنهم آلموا نفس النبي صلى الله عليه وسلم بما عصوا وآذوا‏.‏

وفي جملة‏:‏ ‏{‏إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرة وَذُو عِقَاببٍ ألِيم‏}‏ مُحسِّن الجمع ثم التقسيم، فقوله‏:‏ ‏{‏ما يقال لك‏}‏ يجمع قائلاً ومقولاً له فكان الإِيماء بوصف ‏(‏ذو مغفرة‏)‏ إلى المقول له، ووصف ‏{‏ذو عقاب أليم‏}‏ إلى القائلين، وهو جار على طريقة اللف والنشر المعكوس وقرينة المقام ترد كُلاًّ إلى مناسبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏أَلِيمٍ * وَلَوْ جعلناه قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين‏}‏‏.‏

اتصال نظم الكلام من أول السورة إلى هنا وتناسب تنقلاته بالتفريع والبيان والاعتراض والاستطراد يقتضي أن قوله‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا‏}‏ إلى آخره تنقُّلٌ في دَرجَ إثبات أن قصدهم العناد فيما يتعللون به ليواجهوا إعراضهم عن القرآن والانتفاع بهديه بما يختلقونه عليه من الطعن فيه والتكذيببِ به، وتكلّفُ الأعذار الباطلة ليتستروا بذلك من الظهور في مظهر المنهزم المحجوج، فأخَذ يَنقض دعاويهم عُروة عُروة، إذْ ابتدئت السورة بتحدِّيهم بمعجزة القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏حم تَنزِيلٌ مِنَ الرحمن الرَّحِيممِ كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرءَاناً عَرَبِياً‏}‏ إلى قوله ‏{‏فهم لا يسمعون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 1 4‏]‏ فهذا تحدَ لهم ووصف للقرآن بصفة الإِعجاز‏.‏

ثم أخذَ في إبطال معاذيرهم ومطاعنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏، فإن قولهم ذلك قصدوا به أن حجة القرآن غير مقنعة لهم إغاظة منهم للنبيء صلى الله عليه وسلم ثم تَمالُئهم على الأعراض بقوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ وهو عجز مكشوف بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يلحدون في ءاياتنا لا يَخْفَون علينا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ الآيات‏.‏ فأعقبها بأوصاف كمال القرآن التي لا يجدون مطعناً فيها بقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لكتاب عزيز‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ الآية‏.‏

وإذ قد كانت هذه المجادلات في أول السورة إلى هنا إبطالاً لتعللاتهم، وكان عماده على أن القرآن عربي مفصَّل الدلالةِ المعروفةِ في لغتهم حسبما ابتدئ الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرءاناً عربياً لِقَوْممٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 3‏]‏ وانْتُهي هنا بقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41، 42‏]‏، فقد نهضت الحجة عليهم بدلالته على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الجهة فانتقل إلى حجة أخرى عمادها الفرضُ والتقديرُ أن يكون قد جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرآن من لغة أخرى غير لغة العرب‏.‏

ولذلك فجملة‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه قرءاناً أعجمياً‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏وإنه لكتاب عزيز‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ على الاعتبارين المتقدمين آنفاً في موقع تلك الجملة‏.‏

ومعنى الآية متفرع على ما يتضمنه قوله‏:‏ ‏{‏كتاب فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْءاناً عربياً لِقَوم يعلمون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل إنما أنا بشر مثلكم يوحَى إلي‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ من التحدِّي بصفة الأمية كما علمت آنفاً، أي لو جئناهم بلون آخر من معجزة الأمية فأنزلنا على الرسول قُرآناً أعجمياً، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم علم بتلك اللغة من قبل، لقلبوا معاذيرهم فقالوا‏:‏ لولا بُينت آياتُه بلغة نفهمها وكيف يخاطِبنا بكلام أعجمي‏.‏ فالكلام جار على طريقة الفرض كما هو مقتضى حرف ‏{‏لو‏}‏ الامتناعية‏.‏ وهذا إبانة على أن هؤلاء القوم لا تجدي معهم الحجة ولا ينقطعون عن المعاذير لأن جدالهم لا يريدون به تطلب الحق وما هو إلا تعنت لترويج هواهم‏.‏

ومن هذا النوع في الاحتجاج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 198، 199‏]‏، أي لو نزلناه بلغة العرب على بعض الأعجمين فقرأه عليهم بالعربية، لاشتراك الحجتين في صفة الأمية في اللغة المفروضضِ إنزالُ الكتاب بها، إلا أن تلك الآية بينت على فرض أن ينزل هذا القرآن على رسوللٍ لا يعرف العربية، وهذه الآية بنيت على فرض أن ينزل القرآن على الرسول العربي صلى الله عليه وسلم بلغة غير العربية‏.‏ وفي هذه الآية إشارة إلى عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للعرب والعجم فلم يكن عجباً أن يكون الكتاب المنزل عليه بلغة غير العرب لولا أن في إنزاله بالعربية حكمةً علمها الله، فإن الله لما اصطفى الرسول صلى الله عليه وسلم عربياً وبعثه بين أمة عربية كان أحقُّ اللغات بأن ينزل بها كتابه إليه العربية، إذ لو نزل كتابه بغير العربية لاستوت لغات الأمم كلها في استحقاق نزول الكتاب بها فأوقع ذلك تحاسداً بينها لأن بينهم من سوابق الحوادث في التاريخ ما يثير الغيرة والتحاسد بينهم بخلاف العرب إذ كانوا في عزلة عن بقية الأمم، فلا جرم رُجحت العربية لأنها لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ولغة القوم المرسل بينهم فلا يستقيم أن يبقى القوم الذين يدعوهم لا يفقهون الكتاب المنزل إليهم‏.‏‏.‏

ولو تعددت الكتب بعدد اللغات لفاتت معجزة البلاغة الخاصة بالعربية لأن العربية أشرف اللغات وأعلاها خصائص وفصاحة وحسنَ أداء للمعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة‏.‏ ثم العرب هم الذين يتولون نشر هذا الدين بين الأمم وتبيين معاني القرآن لهم‏.‏ ووقع في «تفسير الطبري» عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ قالت قريش‏:‏ لولا أنزل هذا القرآن أعجمياً وعربياً‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته أعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ‏}‏ بهمزة واحدة على غير مذهب الاستفهام ا ه‏.‏ ولا أحسب هذا إلا تأويلاً لسعيد بن جبير لأنه لم يسنده إلى راو، ولم يرو عن غيره فرأى أن الآية تنبئ عن جواب كلام صدر عن المشركين المعبر عنهم بضمير ‏{‏لَّقَالُوا‏}‏‏.‏ وسياق الآية ولفظها ينبو عن هذا المعنى، وكيف و‏{‏لو‏}‏ الامتناعية تمتنع من تحمل هذا التأويل وتدفعه‏.‏

وأما ما ذكره في «الكشاف»‏:‏ «أنهم كانوا لتعنتهم يقولون‏:‏ هلا نزل القرآن بلغة العجم‏؟‏ فقيل‏:‏ لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت، وقالوا‏:‏ لولا فصّلت آياته الخ»‏.‏ فلم نقف على من ذكر مثله من المفسرين وأصحاب أسباب النزول وما هو إلا من صنف ما روي عن سعيد‏.‏ ولو كان كذلك لكان نظم الآية‏:‏ وقالوا لولا فصلت آياته، ولم يكن على طريقة ‏{‏لو‏}‏ وجوابها‏.‏ ولا يظن بقريش أن يقولوا ذلك إلا إذا كان على سبيل التهكم والاستهزاء‏.‏

وضمير ‏{‏جعلناه‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذكر في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذِينَ كَفَرُوا بالذِّكْرِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ أعجمِيٌّ وعَرَبِيٌّ‏}‏ بقية ما يقولونه على فرض أن يُجعل القرآن أعجمياً، أي أنهم لا يخلون من الطعن في القرآن على كل تقدير‏.‏

و ‏{‏لولا‏}‏ حرف تحضيض‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏فُصِّلَتْ‏}‏ هنا‏:‏ بيِّنت ووضِّحت، أي لولا جعلت آياته عربية نفهمها‏.‏

والواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَرَبِيٌّ‏}‏ للعطف بمعنى المعية‏.‏ والمعنى‏:‏ وكيف يلتقي أعجمي وعربي، أي كيف يكون اللفظ أعجمياً والمخاطب به عربياً كأنهم يقولون‏:‏ أيلقى لفظ أعجمي إلى مخاطب عربي‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏قوآناً‏}‏ كتاباً مقروءاً‏.‏ وورد في الحديث تسمية كتاب داود عليه السلام قرآناً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن داود يُسّر له القرآن فكان يقرأ القرآن كله في حين يسرج له فرسه ‏(‏أو كما قال‏)‏‏.‏

والأعجمي‏:‏ المنسوب إلى أعجم، والأعجم مشتق من العجمة وهي الإِفصاح، فالأعجم‏:‏ الذي لا يفصح باللغة العربية، وزيادة الياء فيه للوصف نحو‏:‏ أحمري ودَوّاري‏.‏ فالأعجمي من صفات الكلام‏.‏

وأفرد ‏{‏وَعَرَبِيٌّ‏}‏ على تأويله بجنس السامع، والمعنى‏:‏ أكتاب عربي لسامعين عرب فكان حق ‏{‏عربي أن يجمع ولكنه أفرد لأن مبنى الإِنكار على تنافر حالتي الكتاب والمرسل إليهم، فاعتبر فيه الجنس دون أن ينظر إلى إفراد، أو جمع‏.‏ وحاصل معنى الآية‏:‏ أنها تؤذن بكلام مقدر داخل في صفات الذِّكْر، وهو أنه بلسان عربي بلغتكم إتماماً لهديكم فلم تؤمنوا به وكفرتم وتعللتم بالتعلّلات الباطلة فلو جعلناه أعجمياً لقلتم‏:‏ هلا بينت لنا حتى نفهمه‏.‏

‏}‏

هذا جواب تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏ما يُقَالُ لَكَ إلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُللِ مِن قَبْلِكَ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 43‏]‏، أي ما يقال من الطعن في القرآن، فجوابه‏:‏ أن ذلك الذكر أو الكتاب للذين آمنوا هدى وشفاء، أي أن تلك الخصال العظيمة للقرآن حَرَمَهم كُفْرُهم الانتفاع بها وانتفع بها المؤمنون فكان لهم هدياً وشفاء‏.‏ وهذا ناظر إلى ما حكاه عنهم من قولهم‏:‏ ‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏، فهو إلزام لهم بحكم على أنفسهم‏.‏

وحقيقة الشفاء‏:‏ زوال المرض وهو مستعار هنا للبصارة بالحقائق وانكشاف الالتباس من النفس كما يزول المرض عند حصول الشفاء، يقال‏:‏ شُفيتْ نفسه، إذا زال حَرجه، قال قيس بن زهير‏:‏

شَفَيْتُ النفسَ من حَمَللِ بننِ بدر *** وسيفي من حُذيفة قد شفاني

ونظيره قولهم‏:‏ شُفي غليله، وبرد غليله، فإن الكفر كالداء في النفس لأنه يوقع في العذاب ويبعث على السيئات‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ الخ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏هُوَ للذِينَ ءامَنُوا هُدًى‏}‏ فهي مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، أي وأما الذين لا يؤمنون فلا تتخلل آياته نفوسَهم لأنهم كمن في آذانهم وقر دون سماعه، وهو ما تقدم في حكاية قولهم‏:‏ ‏{‏وفي آذاننا وقر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏، ولهذا الاعتبار كان معنى الجملة متعلقاً بأحوال القرآن مع الفريق غير المؤمن من غير تكلف لتقدير جعل الجملة خبراً عن القرآن‏.‏

ويجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً عن ضمير الذكر، أي القرآن، فتكونَ من مقول القول وكذلك جملة ‏{‏وَهُوَ عَليهِمْ عَمًى‏}‏‏.‏

والإِخبار عنهُ ب ‏{‏وَقْرٌ‏}‏ و‏{‏عَمًى‏}‏ تشبيه بليغ ووجه الشبه هو عدم الانتفاع به مع سماع ألفاظه، والوقر‏:‏ داء فمقابلته بالشفاء من محسِّن الطِّباق‏.‏

وضمير ‏{‏وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ يتبادر أنه عائد إلى الذِّكر أو الكتاب كما عاد ضمير ‏{‏هو‏}‏ ‏{‏لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى‏}‏‏.‏ والعَمى‏:‏ عدم البصر، وهو مستعار هنا لضد الاهتداء فمقابلته بالهدى فيها محسِّن الطِّباق‏.‏

والإِسناد إلى القرآن على هذا الوجه في معاد الضمير بأنه عليهم عمًى من الإِسناد المجازي لأن عنادهم في قبوله كان سبباً لضلالهم فكان القرآن سَبَبَ سبببٍ، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 125‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون ضمير ‏{‏وَهُوَ‏}‏ ضميرَ شأن تنبيهاً على فظاعة ضلالهم‏.‏ وجملة ‏{‏عَلَيهم عَمًى‏}‏ خبر ضميرَ الشأن، أي وأعظم من الوقر أن عليهم عمى، أي على أبصارهم عمى كقوله‏:‏ ‏{‏وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وإنما علق العمى بالكون على ذواتهم لأنه لما كان عمى مجازياً تعين أن مصيبَته على أنفسهم كلها لا على أبصارهم خاصة فإن عمى البصائر أشدّ ضراً من عمى الأبصار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمَى القلوب التي في الصدور‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏أولئك يُنَادونَ مِن مَكاننٍ بَعِيدٍ‏}‏ خبر ثالث عن ‏{‏الذين لا يؤمنون‏}‏‏.‏ والكلام تمثيل لحال إعراضهم عن الدعوة عند سماعها بحال من يُنادَى من مكان بعيد لا يبلغ إليه في مثله صوت المنادي على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع‏}‏ كما تقدم في سورة البقرة ‏(‏171‏)‏‏.‏ وتقول العرب لمن لا يفهم‏:‏ أنت تُنادَى من مكان بعيد‏.‏ والإِشارة ب ‏{‏أولئك‏}‏ إلى ‏{‏الذين لا يؤمنون‏}‏ لقصد التنبيه على أن المشار إليهم بعد تلك الأوصاف أحْرياء بما سيذكر بعدها من الحكم من أجلها نظير ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ويتعلق ‏{‏مِن مكاننٍ بعيدٍ‏}‏ ب ‏{‏يُنَادونَ‏}‏‏.‏ وإذا كان النداء من مكان بعيد كان المنادَى ‏(‏بالفتح‏)‏ في مكان بعيد لا محالة كما تقدم في تعلق ‏{‏من الأرض‏}‏، بقوله‏:‏ ‏{‏ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏ أي دعاكم من مكانكم في الأرض، ويذلك يجوز أن يكون ‏{‏مِن مَكَاننٍ بعيدٍ‏}‏ ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ضمير ‏{‏يُنَادونَ‏}‏ وذلك غير متأتَ في قوله‏:‏ ‏{‏إذا دعاكم دعوة من الأرض‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏بَعِيدٍ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ‏}‏‏.‏

اعتراض بتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على تكذيب المشركين وكفرهم بالقرآن بأنه ليس بأَوحدَ في ذلك فقد أوتي موسى التوراة فاختلف الذين دعاهم في ذلك، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر‏.‏

والمقصود الاعتبار بالاختلاف في التوراة فإنه أشد من الاختلاف في القرآن فالاختلاف في التوراة كان على نوعين‏:‏ اختلاف فيها بين مؤمن بها وكافر، فقد كفر بدعوة موسى فرعون وقومه وبعض بني إسرائيل مثلُ قارون ومثل الذين عبدوا العجل في مغيب موسى للمناجاة، واختلاف بين المؤمنين بها اختلافاً عطلوا به بعض أحكامها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏، وكلا الاختلافين موضع عبرة وأسوة لاختلاف المشركين في القرآن‏.‏ وهذا ما عصم الله القرآن من مثله إذ قال‏:‏ ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 12‏]‏ فالتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا أوقع، وهذا ناظر إلى قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 43‏]‏ على الوجه الثاني من معنييه بذكر فرد من أفراد ذلك العموم وهو الأعظم الأهم‏.‏

‏{‏فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ‏}‏

هذا متعلق بالذين كذبوا بالقرآن من العرب لأن قوله‏:‏ ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ يقتضي أن الله أخر القضاء بينهم وبين المؤمنين إلى أجل اقتضته حكمتُه، فأَما قوم موسى فقد قضَى بينهم باستئصال قوم فرعون، وبتمثيل الأشوريين باليهود بعد موسى، وبخراب بيت المقدس، وزوال ملك إسرائيل آخراً‏.‏ وهذا الكلام داخل في إتمام التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في استبطاء النصر‏.‏

والكلمة هي كلمة الإمهال إلى يوم القيامة بالنسبة لبعض المكذبين، والإِمهاللِ إلى يوم بدر بالنسبة لمن صرعوا ببدر‏.‏

والتعبير عن الجلالة بلفظ ‏{‏رَبِّكَ‏}‏ لما في معنى الرب من الرأفة به والانتصار له، ولما في الإضافة إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم من التشريف‏.‏ وكلا الأمرين تعزيز للتسلية‏.‏

ولك أن تجعل كلمة ‏(‏بين‏)‏ دالة على أخرى مقدرة على سبيل إيجاز الحذف‏.‏ والتقدير‏:‏ بينهم وبينَ المؤمنين، أي بما يظهر به انتصار المؤمنين، فإنه يكثر أن يقال‏:‏ بين كذا وبين كذا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وحيل بينهم وبين ما يشتهون‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 54‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏سَبَقَتْ‏}‏ أي تقدمت في علمه على مقتضى حكمته وإرادته‏.‏

والأجلُ المسمى‏:‏ جنس يصدق بكل ما أجل به عقابهم في علم الله‏.‏ وأما ضمير ‏{‏وإنَّهُمْ لَفِي شَكَ مِنْهُ مُرِيبٍ‏}‏ فهو خاص بالمشركين الشاكين في البعث والشاكين في أن الله ينصر رسوله والمؤمنين‏.‏

والريب‏:‏ الشك، فوصف ‏{‏شَكّ‏}‏ ب ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ من قبيل الإسناد المجازي لقصد المبالغة بأن اشتق له من اسمه وصف كقولهم‏:‏ لَيلٌ أَلْيل وشِعْرٌ شَاعر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

هذا من مكملات التسلية ومن مناسبات ذكر الأجل المسمى‏.‏ وفيه معنى التذييل لأن ‏{‏مَن‏}‏ في الموضعين مفيدة للعموم سواء اعتبرت شرطية أو موصولة‏.‏ ووجود الفاء في الموضعين‏:‏ إمّا لأنهما جوابان للشرط، وإما لمعاملة الموصول معاملةَ الشرط وهو استعمال كثير‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الإِمهال إعذار لهم ليتداركوا أمرهم‏.‏

وتقديم قريب من هذه الآية في سورة الزمر، كما تقدم نظير ‏{‏وما رَبُّكَ بِظَلاممٍ لِلْعَبِيد‏}‏ لفظاً ومعنى في سورة غافر ‏(‏31‏)‏‏.‏

وحرف ‏(‏على‏)‏ مؤذن بمؤاخذة وتحمُّل أعباء كما أن اللام في قوله‏:‏ ‏{‏فَلِنَفْسِهِ‏}‏ مؤذن بالعطاء‏.‏

والخطاب في ‏{‏رَبُّكَ‏}‏ للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه ما تقدم من تعزيز تسليته عند قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 45‏]‏ من العدول إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير المخاطب‏.‏

والمراد بنفي الظلم عن الله تعالى لعبيده‏:‏ أنه لا يعاقب من ليس منهم بمجرم، لأن الله لما وضع للناس شرائع وبيّن الحسنات والسيئات، ووعد وأوعد فقد جعل ذلك قانوناً، فصار العدول عنه إلى عقاب من ليس بمجرم ظلماً إذ الظلم هو الاعتداء على حق الغير في القوانين المتلقاة من الشرائع الإِلهية أو القوانين الوضعية المستخرجة من العقول الحكيمة‏.‏ وأما صيغة ‏(‏ظلام‏)‏ المقتضية المبالغة في الظلم فهي معتبرة قبل دخول النفي على الجملة التي وقعت هي فيها كأنه قيل‏:‏ ليعذب الله المسيء لكان ظلاّماً له وما هو بظلاّم، وهذا معنى قول علماء المعاني‏:‏ إن النفي إذا توجه إلى كلام مقيَّد قد يكون النفي نفياً للقيد وقد يكون القَيد قيداً في النفي ومثلوه بهذه الآية‏.‏ وهذا استعمال دقيق في الكلام البليغ في نفي الوصف المصوغ بصيغة المبالغة من تمام عدل الله تعالى أن جعل كل درجات الظلم في رتبة الظلم الشديد‏.‏